التربية بلغة الحب
بقلم: سامية مازوزي
تنوعت طرق التربية ومسمياتها بين التقليدية والحديثة والإيجابية، واختلفت مصادرها ومراجعها، حتى باتت علما يدرس وتقنيات تلقن وتجارب تقام. ويبقى الحب أقوى الأساليب التي أثبتت نجاعتها، بل هي من أقوى لغات التواصل بين الآباء والأبناء وهذا ما أكدته التربية النبوية التي أقرتها لنا سنته ﷺ، فجل الآثار الواردة في ذلك تؤكد على أن الحب يجب أن يكون المحرك للعملية التربوية بمختلف مستوياتها.
لغات الحب
وللحب في التربية لغات قد لا يسعها الإحصاء أو التصنيف، نعبر عنه بالكلمة العذبة وباللمسة الحانية بالهدية الماتعة واللفتة الطيبة، كلها لغات تكمل بعضها عند الصغير ولا يستغني عن واحدة منها، فماذا تعني كل منها في قلبه إذا لم تملأ رصيده بالحب؟ لفظا وسلوكا متواصلين لا ينقطعان.
إنه الحب الذي لا يستغني عن الكلمة التي تتكرر، ولا يمل من تكرارها، فتشهد له وبه،قال البراء رضي الله عنه: رأيت النبي والحسن بن علي على عاتقه يقول: “اللهم إني أُحِبُّه فأَحِبَّه”. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إن رسول الله التزم الحسن بن علي، فقال اللهم إني أحبه فأحبه وأحب من يحبه، وقال أبو هريرة فما كان أحد أحب إليَّ من الحسن بعد ما قال الرسول ما قال. أليس أعز من الولد ابن الولد؟ وكيف إذا كان ابن الزهراء بضعة النبوة؟ حق له أن يربو بالحب وأن ينتقل حبه إلى كل من أحبه؟ حتى صارت سنة تتبعوثقافة تورث؟
وها هي أم خالد الصحابية التي تذكر هدية النبي ﷺ لها وعظمة الهدية من عظمة صاحبها؛ عن أم خالد بنت خالد ـ رضي الله عنها ـ قالت: أُتِيَ النبيﷺـ بثياب فيها خميصة سوداء صغيرة، فقال: “من ترون أن نكسو هذه؟”، فسكت القوم، فقال: “ائتوني بأم خالد”، فأتي بها تُحْمل، فأخذ الخميصة بيده فألبسها، وقال: “أبلي وأخلقي”. لقد ذكرها من بين صبية وبنات كثر، وخصها بهديته لأنه يحبها ويريد أن يذكرها بحيه، وللحب ذاكرة قد تخبو إذا لم نحيها بهدايا كالذكريات.
حب كالرفق والرحمة
وحق لسبط النبي ﷺ أن يسقى ذلك الحب بكل لغاته، وأن تطبع شفتاه الشريفتان على جسده، لتترك في خلايا جلده أثرا لا يمحى. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قَبَّل رسول الله الحسن بن علي وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالسًا، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبَّلْتُ منهم أحدًا، فنظر عليه رسول الله ثم قال:”من لا يَرْحَم لا يُرْحَم”. هو حب يجب أن يلقن للأمة كي تنبت أجيالها نباتا حسنا، بل ويجب أن يُنهى عن الجفاف العاطفي تجاه الأبناء؛ فتعاطي الحب أمارة من أمارات الرحمة، ويوشك الغافل عنه أن يكتب محروما منزوع الرحمة؛ عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاء أعرابي إلى النبي ﷺ فقال: أَتُقَبِّلُون الصبيان فما نقبلهم، فقال النبي: أوَأَملِك لك أن نزع الله الرحمة من قلبك؟
حب كالدعاء
إنه حب كالدعوة المستجابة التي يمتد صداها ليلامس السماء، وقد كان النبي ﷺ يظهر حبه للصبيان بالدعاء لهم كلما استطاع، وكأنه يعدهم لزمن غير زمنه فمرة يحصنهم بالعلم على حداثة سنهم ليكونوا ورثة الأنبياء قال ابن عباس ضَمَّني رسول الله وقال: “اللهم علمه الكتاب”.ومرة هو نفسه وضع للنبي ﷺوَضوءاًفقال: من وضع هذا؟ فأُخبر؛ فقال: اللهم فقهه في الدين. إنه دعاء أثمر حبر الأمة وعالما من علمائها المفسرين الحافظين، وكم من دعاء سيثمر فينا لو اهتدينا وسددنا.
ومرة يحصن النبي ﷺ الغلمان بالبركة في المال والولد فها هو أنس رضي الله عنه حين خدمالرسولﷺ دعا له فقال: “اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيما أعطيته”. إنه الحب الذي يحف فلذات الأكباد بالرعاية من كل جانب بدعوات تطهر وتحصن، حب يصل قلبين برب قريب مجيب، فيثمر غرسه في الأمة كلها.
حب كالاهتمام
الاهتمام صورة من صور الحب، بل هو الركن الشديد الذي يقويه والدعامة التي تسند بنيانه، وهو لا يشترط الندية أو المبادلة، بل هو سلوك في عفويته دلالة وفي مقصوديته تربيةوكان ﷺ يُسلِّم على الصغار شأنهم شأن الكِبار، فعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يزور الأنصار ويُسلِّم على صبيانهم ويمسح رؤوسهم.
فماذا بين موقف النبي ﷺهذا ومواقفنا مع أطفالنا في طرقاتنا ومجالسنا، فقاماتنا الطويلة وانشغالاتنا حرمتنا حتى من أجر السلام عليهم، بل إن البعض يزجرهم من بيوت الله بله مجالس الكبار، في مشاهد لا تعبر إلا عن الاحتقار، فيتم إلغاء شخصياتهم واستصغارهم والتقليل من شأنهم ومكانتهم، غافلين أننا حيننسلبهم التقدير والاحترام، وحضور مجالس الكبار والتعلُّم منهم من صغرهم، فإننا نوسع الهوة بيننا وبينهم، ونخلق معها ذلك الصراع بين جيلنا وجيلهم حين يدركنا على كبر فنشكو منه.
بمن نقتدي ومجالس سيد الخلق لم تكن تخلو من الصغار، فعن سهل بن ساعد رضي الله عنه قال: أُتي النبي بقدح فشرب منه، وعن يمينه غلام أصغر القوم والأشياخ عن يساره فقال: يا غلام، أتأذن لي أن أعطيه الأشياخ، قال: ما كنت لأوثر بفضلي منك أحدًا يا رسول الله فأعطاه إياه. كيف نقرأ موقف النبي ﷺ وهو يستأذن الصبي في تقديم من هم أكبر منه عليه، وكيف نقرأ الصبي الذي ألهمته صحبة النبي أن يسبق غيره إلى سؤر النبي ﷺ؟ كيف نقرأه لو حدث في مجالسنا؟ فوالله لا ينال صغارنا في مثلها إلا الضرب والتقريع. ولكنه النبي ﷺ يعد هذا الغلام لما هو أكبر من مجلس يحضره، فهو من جيل الذين سيحملون رسالته، ويبنون حضارتها، لذلك كان حينها وفي ذلك المجلس أهم من الجميع.
وعن عبد الله بن شداد عن أبيه قال: خرج علينا رسول الله ﷺ في إحدى صلاتي العشي، الظهر أو العصر، وهو حامل الحسن أو الحسين، فتقدم النبي ﷺ فوضعه ثم كبر للصلاة، فصلى فسجد بين ظهري صلاته سجدة أطالها، قال: إني رفعت رأسي فإذا الصبي على ظهر رسول الله ـﷺ وهو ساجد فرجعت في سجودي، فلما قضى رسول الله ﷺ الصلاة، قال الناس يا رسول الله: إنك سجدت بين ظهري الصلاة سجدة أطلتها، حتى ظننا انه قد حدث أمر أو أنه يوحى إليك، قال: “كل ذلك لم يكن، ولكن ابني ارتحلني (ركب على ظهري) فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته”. كيف نفسر صبر النبي على سبطه وهو يصلي برجاله؟ فلا يملك إلا أن يقدمه عليهم، ويشركه في حضرة ربه وهو أقرب ما يكون إليه ساجدا. ومن يجمع موقف الجد ولعب الصبيان إلا ليكون لعبهم ذاك جدا كل الجد؟
حب كالمشاركة
ومن الحب مشاركة الصغار لعبهم وجدهم، فقد كان ﷺ يُسابِق بين الصغار؛ فقد رُوي عن عبدالله بن الحارث رضي الله عنه أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصفُّ عبدالله، وعبيدالله، وكثير بن العباس، ثم يقول: “مَن سبق إليَّ فله كذا وكذا”، قال: “فيستبقون إليه، فيقعون على ظهره وصدره، فيُقبِّلهم ويلتزمهم”. هذا النبي القائد في قومه المنشغل بحرب قوم آخرين لا يستنكف أن يخصص لصغار أصحابه من وقته الثمين ليلعب معهم، ويداعبهم. بل ويشاركهم همومهم الصغيرة؛ وقد رُويتْ لنا تلك القصة الجميلة التي وقعَتْ للنبي عليه الصلاة والسلام مع طفل فطيم؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه، أنه قال: كان النبي عليه الصلاة والسلام يزُورُنا كثيرًا، ويتفَقَّد أحوالنا، وكان لي أخٌ فطيمًا؛ أي: لم يتجاوز العامين أو الثلاث، قال: عندما وجده النبي صلى الله عليه وسلم هادئًا لا يتحرَّك، فقال لأُمِّه: “مالي أرى ابنَكِ خائرَ النَّفْسِ؟!”؛ أي: لا يتحرَّك، فقالوا: يا رسول الله، كان له نُغَرٌ كان يلعب به، فمات، فداعبَه عليه الصلاة والسلام بقوله: “يا أبا عُمَيْرٍ، ما فَعَلَ النُّغَيْرُ؟”، فكان كلما رآه قال له ذلك.
ومما يُذكَر أيضًا في مزحه عليه الصلاة والسلام مع الصغار ما رواه محمود بن الربيع أنه قال: “عَقَلْتُ من النبي صلى الله عليه وسلم مَجَّةًمجَّها في وجهي وأنا ابن خمس سنين من دَلْو”؛ لقد حفظ موقفاطريفا مع النبي ﷺوهو ابن خمس سنوات حيث رشَّ النبي عليه الصلاة والسلام الماء من فَمِه عليه يُمازحه ويُضاحكه، فلم يَنْسَها محمود بن الربيع، فأخبر بها عندما كبر. وكم من الذكريات التي تلتصق بنا في حداثتنا لأنها نبعت من حب صادق لا يدرك صدقه ولا يحسه إلا الصغار.
حب كالعدل
ومن الحب ألا تكون سببا في تباغض أبنائك وتنازعهم على حق من حقوقهم عندك، وألا توغر صدورهم لسلوك أو هبة خص بهما أحدهم. فعن النُّعمان بن بشيرٍ رضي الله عنهما قال: سألَت أمِّي أبي بعضَ الموهبة لي من ماله، ثم بدا له فوهبها لي، فقالت: لا أرضى حتى تُشهد النَّبي ﷺ، فأخذ بيدي وأنا غلام فأتى بي النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال: إن أمَّه بنت رواحة سألتني بعض الموهبة لهذا، قال: “ألَك ولدٌ سواه؟”، قال: نعم، قال: فأراه قال: “لا تُشهدني على جورٍ”. وفي رواية: “أيسرك أن يكونوا إليك في البرِّ سواءً؟”، قال: بلى، قال: “فلا إذًا”. وفي أخرى: “أفعلت هذا بولدك كلهم؟» قال: لا، قال: «اتقوا الله، واعدلوا في أولادكم”.
قال ابن القيم رحمه الله مبينًا وجوب العدل بين الأبناء: (وهذا أمر تهديد لا إباحة، فإنَّ تلك العطية كانت جورًا بنصِّ الحديث، ورسول الله لا يأذن لأحد أن يَشهد على صحَّة الجور … ومن العجب أن يحمل قوله: “واعدِلوا بين أولادكم” على غير الوجوب، وقد أخبر الآمِرُ به أنَّ خلافه جور، وأنه لا يصلح، وأنه ليس بحق، وما بعد الحق إلا الباطل).
وقد تكون كلمة أو سلوكا لا نلقي له بالا هو الفارق بين العدل والجور والفيصل بين الحق والباطل؛ روى ابن أبي الدنيا عن الحسن قال: بينما رسول ﷺيحدِّث أصحابه إذ جاء صبيٌّ حتى انتهى إلى أبيه، في ناحية القوم، فمسح رأسه وأقعده على فخذه اليمنى، قال: فلبث قليلًا، فجاءت ابنة له حتى انتهَت إليه، فمسح رأسها وأقعدها في الأرض، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “فهلَّا على فخذك الأخرى”، فحملها على فخذه الأخرى، فقال صلى الله عليه وسلم: “الآن عَدلتَ”.إنه العدل حتى في قسمة جسدك وأنفاسك عليهم. أوليس العدل بين الأبناء حبا يتقاسمونه بالسوية فيقسمونه بينهم مودة ورحمة وبرا؟
حب كقبس الهداية
وفي حبنا لأبنائنا رغبة في أن يكونوا على خير وأن يكونوا خيرا منا ومن الناس جميعا، نريدهم علامات تهدي وتهتدي، نريدهم أن يتعافوا من عذابات النصب والوصب في الدنيا، وأن ينأوا بأنفسهم عن النار، ولأننا نعلم أن أكتافنا مهما ارتفعت لن تعصمهم من الماء حين يأتي الطوفان، وجب علينا أن نعلمهم طريق النجاة لقوله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ” [التحريم:6].ومن مواقف النبي التعليمية مع الصغار حديث ابن عباس رضي الله عنه المشهور: “يا غلامُ، إنِّي أُعلِّمُكَ كلماتٍ: احفَظِ اللهَ يحفَظْكَ، احفَظِ اللهَ تَجِدْهُ تُجاهَك، إذا سألتَ فاسأل اللهَ، وإذا استعنْتَ فاستعِنْ باللهِ، واعلم أنَّ الأُمَّةَ لو اجتمَعَتْ على أن ينفعـوكَ بشَيءٍ لم ينفعوكَ إلا بشيءٍ قد كتَبَه اللهُ لك، وإن اجتمعوا على أن يضرُّوكَ بشيءٍ لم يضرُّوكَ إلا بشيءٍ قد كتَبَه اللهُ عليك، رُفِعَتِ الأقلامُ، وجفَّت الصُّحُف”. لله درك يا ابن العباس وقد حمّلك حبيبك هذه الوصايا العظيمة وأمثالك من الغلمان يشفق أهلوهم أن يكلفوهم بالصلاة. إنه الحب الذي يحرص فيه الحبيب على أن يغرس في فلذة الكبد أسس العقيدة التي تحميه وتحصنه من صروف الدهر؛ ألا يبكي على فائت ولا يلهث على لاحق. كلمات علمه إياها حين لقيهفي أحد مسالك المدينة فأرْدَفَه خلفَه على الحمار وهو بعد غلامٌ صغيرٌ يُناهز السابعة. هي أمانة الدين فالدين النصيحة، وقد شدد الحديث على من فرط فيها “ما مِن عبدٍ استرعاه الله رعيَّةً فلم يحطها بنصيحةٍ، إلَّا لم يجد رائحة الجنة”.
التربية بالحب نظرية أثبتها السلوك النبوي قولا وفعلا وتقريرا، وهي أفضل الغرس الذي يؤتي ثماره في الأسرة، لأن الحب أحد الأساليب التي تلهم الآباء القرارات الصائبة في المواقف التي تعترضهم مع أبنائهم، وهو الرابط الذي يوثق الصلة والتواصل بين الطرفين. وهو لا يعني تغليب العاطفة في قراراتنا تجاه أبنائنا، لكنه بالتأكيد مهم لرأب صدوع الخلاف بين جيلين يجب أن يشتركا في البناء الحضاري.