سحابةُ صيفٍ عمَّا قليلٍ تَقَشَّعُ..هذا ما كنت أتمثّل به عند الحديث عن حرب 7 أكتوبر الغزية وكنت أقول ! : إنْ هي إلا أياما معدودات وسيُولَّى الجمعُ الدُّبُر . وقد ذهب بي التفاؤل مذهبا بعيدا ؛ أنساني أن تاريخ غززة و حاضرها ومحيطها يجعلها لا تشبه سائر البلاد الإسلامية في شيء – مع الإقرار أن بلدان الإسلام إخوةٌ لعلّات هُويتهم الاسلام ؛ وأجناسهم شتى …
سحابةُ الصَّيفِ التي اعتقدتها لم تعدْ سحابةً ؛ بل غَدَتْ ليلًا طويلَ الرَّدَى أبى الفجر أن ينبلجَ عنه . واضطرمت نارُ الحرب ؛ واتَّقدتْ ولم تخبُ ؛ إنّها تستعرُ كلَّ يوم ؛ وإنَّ وقودَها البشرُ والحجرُ والشَّجَرْ ، وفي كل يومٍ يخرج علينا اليهوود بالقصف والقتل ؛كأن ابليسَ ينْفثُ في رَوْعِه : زِدْهم عذابًا ؛ وشياطين الجن والإنس معك .
إن الأمر في غززة انطلق من حيث لا يريده الغرب والعرب، ولو استقبلوا من أمرهم ما استدبروا ما تركوا هذه حمماسس تثور تؤسس ويعلو أمرها. أما وقد سُقِط في أيديهم ؛ وعلموا أن حمااس سبقتهم ؛ فهم يجتهدون الآن الاجتهادَ كله ألا تُؤتي ثمارها ؛ ويريدونها أن تنمحي فلا يكون لها وجود ولا ذِكر؛ و يعينهم على ذلك جيرانٌ مُتخاذلون وأمّة ٌ من الإسلام تنتسب إليه ؛ و تأبى أن تأتي بشرائطه ؛ وإن أبلغ شرائط الإسلام إجابة اخوانك اذا استنصروك في الدين؛ بل لم ينتصر الإسلام إلا بنصرة الأنصار للمهاجرين ..أليس هذا هو تاريخنا..!!
كُلُّ المَعَايِيرِ قَدْ ضَاعَتْ مُبَعْثَرَةً / لَـمَّا تَوَغَّلَ فِيْ الظَّلْمَاءِ سَارِينَا
هذه غززة وحدها أُلقِيَ عليها من أسباب الموت ما يُعادل قنبلة نووية ؛ حتى أصبحت أثرًا بعد عين ..ولا بواكي على غززة ؛ ولا شعراء يقفون عند أطلالها يُساءِلون أَرْسُمَها .. بل همهم سلاااح حماااس
ما الذي يحلّ بك يا غززة ….
يا أغنية الشعراء كأن الحناجر انقطعت دونك ..أنتِ مهد العلم وطينة الشجاعة ؛ أليس في التاريخ من شفيع لك .
لا جرم أن أعراق الناس وأجناسهم تختلف وتتمايز، وليس المراد التفضيل الكلي بلا استثناء، ذلك الذي يلحأ إليه التافهون بلا موازين صحيحة، فإنه من الجاهلية ومما عُلم من دين الله اضطرارا ذمه واستنكاره فإنه لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، وقد قيل :
إذا افتخرت بآباء لهم شرف / قلنا صدقت ولكن بئس ما ولدوا !
ولكن المراد المدح الجمعي، حاء في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قريش، والأنصار، وجهينة، ومزينة، وأسلم، وأشجع، وغفار موالي، ليس لهم مولى دون الله ورسوله هذا مدح عام لأصول قبائل عربية عُرفت بذلك
ومن نظر في أهل غززة خاصة بما أبانوا من شجاعة وإقدام وصبر بمجموعهم! يوحي أن تركيبتهم وكيماء عرقهم كأنهم خلقوا من طينة الشجاعة والإباء..وكلما غادر منهم جيل أو استشهد منهم بطل نشأ بطل بل أبطال وخُلقت أجيال على لاحب شجاعتهم يتمون المسير، فكأنهم يتوارثون الشحاعة كما يتوارثوون الجينات
فَما يَكُ مِن خَيرٍ أَتَوهُ فَإِنَّما / تَوارَثَهُ آباءُ آبائِهِم قَبلُ
وَهَل يُنبِتُ الخَطِّيَّ إِلّا وَشيجُهُ / وَتُغرَسُ إِلّا في مَنابِتِها النَخلُ
ولا تأتي الشجاعة من بيت جبن ولا الكرم من أصول البخل إلا ما ندر، وليست مهمتنا استدعاء التاريخ لنمدح أهل غزة بل نريد ان نستدل بواقعهم على طيب أصولهم ومعدن شجاعتهم وتاريخ نضالهم، وكل من أبى الظلم على نفسه وسعى لدفعه دلّ على عرقٍ طيب كريم
قال المتلمس:
ولا تقْبَلنْ ضيمًا مخافةَ مِيتةٍ *** وموتَنْ بها حرًّا وجِلدُك أمْلَسُ
يقول العلامة الخضر حسين : (إباءة الضيم خلق محمود أينما حلَّ، وأهم موقع له نفوس الرجال الموكول إليهم تدبير شؤون الأمة، وتنفيذ ما يحقق آمالها، وإنما تسقط الأمة في هاوية الاحتلال الأجنبي، إذا وقع زمام أمرها في يد من صغرت همته، فلا يغضب للضيم الذي يلقى على عنقه، ويسوق الأمة بعصاه إلى جهل وفقر وشقاق…)
ويظن المنافقون أن قِواهم قد خارت، وأن عزائمهم قد كلّت، ولكن؛ هيهات هيهات لما يظنون!! “شجاعٌ كأن الحرب عاشقةٌ له،.. إذا زارها فدته بالخيل والرجل
يقول سيّد قطب : (إنهم قليلون.. قليلون في تاريخ البشرية.. بل نادرون! ولكن منهم الكفاية.. فالقوة المشرفة على هذا الكون، هي التي تصوغهم، وتبعث بهم في الوقت المُقدَّرِ المطلوب.)
القوم في غزززة ليسوا من أفناء الناس وقاصيَتهم ..بل هم معدن الرجولة …
فالنصر سيصنعه الجيل القادم ..النصر آتٍ يصنعه جيلٌ أكثر بسالة وإقداما.
يقول شيخ الاسلام بن تيمية : (الجهاااد تحقيق كون المؤمن مؤمنا) وهذا ما يقوم به أهل غزة تحقيقا وتصديقا
تكشَّفت غززة عن أهوال يشيب لها الولدان، أهوالٌ في الجهاد والتخطيط والاتصالات والصناعات الحربية ومفاخر في الشجاعة والاقدام والصبر
كيف، ونحن ونراهم يحتملون أهوال الحرب وقد امتدت لعامين وهم على ذلك يذيقون الصصهاينة الويلات رغم المدد الاعلامي والمادي الذي لم ينقطع عن اليههوود، فمن يحتمل حربا وهو لا يكاد يملك من السلاح الا ما يصنعه في ظروف قاسية لا تُصدق؟ ..فيأخذون القنببلة التي لم تنفجر فيحيلونها الى قنابل صغيرة أخرى يبارك الله فيها فتدمر آلياتهم بإذن الله
هذا الصبر الذي يذيب الصخر هو ما تسلح به أهل الرباط، وتواصَوا به، فأنزل الله عليهم السكينة وجاهدوا بالقرآن وتدبُّره، فكان حالهم مما استدعى الفطرة المؤمنة في نفس الإنسان، فهبَّ أقوام من الكفرة لنصرتهم، ودخل أقوام إلى الاسلام إيمانا منهم ان اهل غزة يملكون شيئا لا يملكه غيرهم …وهذا هو الايمان يتعدى أثرُه صاحبَه فتراه كالجبل الأشم راسخا ينتظر الموت انتظاره للحياة..فالأمر عنده سيان..
يغني بأعلى صوته …
فَلا أَنا مِمّا جَرَّتِ الحَربُ مُشتَكٍ / وَلا أَنا مِمّا أَحدَثَ الدَهرُ جازِعُ
وأكثر ما يُغيط العدى الصبرُ…الصبر حيلة القوي في وجه جلّاده والشامت به!
يتعلقون بالله وحده وقد خذلهم القريب ثم زيد في خذلانه أن صار يذكِّره بخطئه وتهوّره- إن سلّمنا له- ويظل الغزاويون ينشُدون الله وحده :
وحَسبي إِذا ما أَوجَعَتني كُربَةٌ / بِمُؤنِسِ يَعقوبٍ وَمُنقِذِ يونُس
هذا جهدهم والله ينظر إلى نياتهم وصدقهم وكفاحهم فذلك هو المطلوب منهم لا النصر، وعلى الله قصد السبيل!
وبعدُ :
فلن أدع التفاؤل ولو تأخّر النصر ..فأمةُ محمدٍ أمةٌ ولود ؛ تختص بإنجاب العظماء ..ولن يُغني أولها عن آخرها ..ولن ينقطع نسلها ..ولو اجتمع عليها ملل الأرض وأممهم – وقد اجتمعوا – فذلك أوان الموت بمنظارهم ..والموت في قاموس المسلم حياة ..وإن لشهداء أهل غزة أجران! لأنهم يُقتلون على أيدي اليهوود وهم من أهل الكتاب! ثبت في السنن أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقال لها أم خلاد وهي منتقبة تسأل عن ابنها وهو مقتول، فقال لها بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: جئت تسألين عن ابنك وأنت منتقبة؟ فقالت : إن أرزأ ابني فلن أرزأ حيائي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ابنك له أجر شهيدين قالت ولم ذاك يا رسول الله ؟ قال : لأنه قتله أهل الكتاب !!
اللهم تول غزززة فيمن توليت في عبادك المجااهدين، وأفرغ عليهم صبرا وقوة وعزما ورشدا
لا تَلُمْ كفي إذا السيف نبا / صحّ منّي العزم والدهر أبى!
والسلام
و كتب
المُتحنِّنُ إليهم
بن جدو بلخير