حصريا

“خديجة بنت خويلد” أم المؤمنين الكاملة أم البنين-د.سهام داوي-الجزائر-

0 749

نساء في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم

خديجة بنت خويلد أم المؤمنين .. الكاملة أمّ البنين

                                                                 د. سهام داوي

هي خديجة بنت خويلد القرشية الكريمة الأولى من أمهات المؤمنين.. لا يغيب ذكرها في سيرة خير المرسلين، ولا يخيب عدّها من أكمل نساء العالمين.. فهي القلب الحنون، والصدر الدافئ، والملاذ الآمن في مرحلة هي أكثر ما يكون الحال حرجا بشاب يتيم تنقّل مرعيًّا بين الجد والعم، وخرج للحياة منفردا بفكره، وشخصيته، وطموحه الذي لا يشبه في شيء رغبات العابثين التائهين من أترابه..

هذه المرأة الفاضلة لم تكن في جاهليتها على ما كان عليه حال مثيلاتها، فلم تكن ممتهنة، ولا مهانة، ولا لعوبا ولا فتّانة، وإنما كانت من عائلة كريمة شريفة من بني أسد بن عبد العزى، ذات مال ونسب، أتاح لها توفرهما أن تمارس التجارة هي وأختها هالة بنت خويلد التي كانت تجارتها في الأغنام والجلود، وكان لها مكان في السوق تجلس فيه ينفسها. خديجة التاجرة لم تكن سليطة لسان، ولا خائنة أمان، بل كانت صادقة عادلة حكيمة، واشتهرت في بيئتها بالطاهرة تمييزا عن العابثات، ولم تكن على وجاهتها في مجتمعها عن الزواج من المستغنيات، فتزوجت الأول وأنجبت له بنتا ماتت صغير، ثم الثاني وكان له منها ثلاثة من الأولاد انضموا إلى رعاية الرسول صلى الله عليه وسلم لما دخل بيتها، وحظيت بالزواج منه.

وتشتهر من قصة هذه العلاقة الزوجية أخبار تجارته بمالها، وما خبرته عنه من الأمانة في ذلك، مع عدم استبعاد معرفتها المسبقة به، فهي تقربه من جهة أبيه، وجهة أمه، والقوم في بقعة لا يخفى فيها حال أحد عن أحد، فلم يكن بنقصها الأُجراء إذ اختارته لتجارتها، ولا المال إذ انضمت إليه برغبتها، قد خبرت الزوج قبله، وأنجبت لسابقيْه معها الذرية، لكنها إذ رأته وقد أصبح شابا يافعا وجدت فيه رجلا من طينة لا تتكرّر في قريش، نبلا، وأمانة، ووضاءة، واستقلالا من مباهج الدنيا، فكان ذلك كافيا ليجمع عليها المتناقضات من مشاعر العطف، والحنان، والإكبار، وحتى الحب، وكيف لا يكون حميد الخصال محبوبا ومرغوبا.

قد يكون الأمان ما جذبها إليه، وقد يكون التميز الخلقي، أو الرقي الذوقي في مجتمع يموج بالماجنين المنتشين بطيبات الحياة الدنيا، بل قد يكون شيئا آخر غير ذاك، فالشفقة باليتيم تلاحقه ما لم يتزوج وينجب، ويظل في نظر المحيطين ضعيف الجانب، كسير الجناح، خاصة إذا اقترن بكلّ ذلك فقر وقلة ذات يد.. وكان كل ذلك عنده وفيه صلى الله عليه وسلم، فمهما تلقّى من رعاية الجد بعد أمه وأبيه يظلّ حاله خاصا، ووضعه مختلفا.. هذا الذي لم يكن ليطول به وهو المصطفى من ربّ العزة للمهمة العظيمة، فقد حرمه ليصنع خصوصيته، ثم أعطاه ليسنده في طريق الرسالة الشاق.. ويا خير ما أعطاه..

لقد رغبت فيه خديجة، وحسبنا من ذلك أنها لم تكن في غنى عن زوج .. ومالت إليه ويكفيها منه ما حباه الله تعالى من الخلق والاستقامة التي ليس فيها عوج.. ولأنه كان عفيفا شريفا فإلى سنه ذاك في مجتمع تميّز بالزواج المبكر للجنسين لم يكن قد أقبل على النساء ولا خلاّ كما هو حال الشباب، فلم يتردد وهي تطلبه، ولم يتأفف وهي تكبره، بل رأى فيها الجوهر كما رأته هي فيه، ورجح فيها المخبر كما رجحته هي فيه، واقترن العفيف بالعفيفة ليعيشا حياة زوجية هانئة وشريفة، رزقا فيها الذرّية، وتقاسما العيشة الرضية، فهمت حقيقته فلم تعانده في خلواته التي تقصر وتطول في الغار، وقدّرت قيمته فكانت تتولّى تجهيزه وتصبر على فراقه في ذلك المكان الموحش سعيا خلف رغبة في معرفة القوة العظيمة التي تقف خلف هذا الكون وتبدّد هواجس العبد المحتار، ربما لفراسة فيها، أو لراحة يجدها كانت لا تتوانى في أن تلبّيها، فحبه يملأ عليها شغاف قلبها، ورعايته تدعوها لتقديم حقه على حقها، ويكفيها أنسا عند خلوته ما يحبط بها من بنيّات محمد صلى الله عليه وسلم اللواتي يملأن عليها بيتها.. وهي التي عوّضته حرمان الأمّ والأخت، ووفرت له جو الأسرة الكامل الذي لم يصل مداه معه في أي حجر تقلّب، وأعطته من مالها بعدما ابتلي بالحرمان، وها هي تقف سندا له في رحلة البحث عن الحقيقة في هذا الكون، تجهيزا وتحفيزا، لتكون المتلقية الأولى لخير الوحي، فتقويه وتشير عليه بما يربط على قلبه، ويذهب روعه وخوفه.

قال الشيخ محمد الغزالي –رحمه الله-: وخديجة مثلٌ طيب للمرأة التي تكمل حياة الرجل العظيم، إن أصحاب الرسالات يحملون قلوبًا شديدة الحساسية, ويلقون غَبنا بالغًا من الواقع الذي يريدون تغييره، ويقاسون جهادًا كبيرًا في سبيل الخير الذي يريدون فرضه، وهم أحوج ما يكونون إلى من يتعهد حياتهم الخاصة بالإيناس والترفيه، بله الإدراك والمعونة، وكانت خديجة سباقة إلى هذه الخصال، وكان لها في حياة محمد صلى الله عليه وسلم أثر كريم.. كان موقف خديجة رضي الله عنها من خبر الوحي يدل على سعة إدراكها، حيث قارنت بين ما سمعت, وواقع النبي صلى الله عليه وسلم, فأدركت أن من جُبـِـل على مكارم الأخلاق لا يخزيه الله أبدًا، فقد وصفته بأنه يصل الرحم، وكون الإنسان يصل أقاربه دليل على استعداده النفسي لبذل الخير والإحسان إلى الناس، فإن أقارب الإنسان هم المرآة الأولى لكشف أخلاقه، فإن نجح في احتواء أقاربه, وكسبهم بما له عليهم من معروف كان طبيعيا بأن ينجح في كسب غيرهم من الناس”[1]

لقد كان لخديجة من بركة تلك الليلة نصيب، وكانت السند القوي للزوج الحبيب، فبعد صبر على تحنثه، وتزويده، ها هي تراه عائدا بخبر السماء الذي كشف عنه غمة قلبه، وحقق له الرجاء.. رجاء الوصول إلى الحقيقة، والعودة بالخبر اليقين، لكن الفزع كان أكبر من الفرحة بالاصطفاء، والبيت كان آمن مكان يتوجه إليه بعد لقاء الملك في تلك الليلة الليلاء، عاد إليها يرتجف، فواستْه كعادتها بجرعة أمان، ولمسة حنان، وهدأت من روعه بيقين يعكس سلامة الفطرة فيها واستعدادها للإيمان.. وذكّرته بسجاياه التي رأتها وعايشتها خمس عشرة سنة من الزمان، وقالت كلمتها الخالدة: “والله لن يخزيك الله أبدا”

كان السر في محله، وتبدّى للبشرية جمعاء في هذه اللحظة بالذات أن انتقاء خديجة له من دون سائر النساء إنما كان إعدادا لهذا اليوم العظيم، فلو كانت غير خديجة لحالت دون اختلائه في الغار، ولوصمته بسيء ما يُخجل منه ويُستعار، ولو كانت غير خديجة لولولت ونفرت وهي تراه على تلك الحال، ولو كانت غير خديجة لبثّت في الموقف جرعة تخويف وتحذير وتطيّر يزيده رعبا، ويصدمه بشأن الذي زاره في الغار,

ولكنها خديجة، العظيمة التي لها طرف خيط من خبر نبي آخر الزمان، وكانت تكفيها العلامة لتكشف عن علم وفهم وتقدير لأحوال النبوة، فكان القول لها، والقرار لها في عرض الإسلام في أول ليلة له على الأرض على من عنده علم بالكتاب، وهو القريب الحكيم ورقة، وقالت له في خطاب يلائم الوضع ويهدئ النفس:” أبشر يا ابن عم واثبت، فو الذي نفس خديجة بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة، والله لا  يخزيك أبدا…”[2]، وكانت خطوتها الموالية في ذلك الليل البهيم، والموقف العظيم أن سارعت إلى ورقة ونقلت إليه الخبر مسترشدة بعبمه، فوقعت منه على ما طيب خاطرها، وأثلج صدرها من كرامة النبوة التي حلت ببيتها، وزينت شريك حياتها، ولذلك فلتفرح العظيمات.. كان يكفيها من دنياها محمد الشاب الأمين، فنثرت له ما في بطنها، وحفظت له مقامه في قلبها، وعاشت معه على ما يرضى، لأنها وجدت فيه فوق ما ترضى، واكتمل العطاء باصطفائه لرسالة السماء، فلم تفوت الفضل وآمنت، وعادت إليه بما قال ورقة وطمأنت، ثم أخذته إليه من غده ليمتثل بنفسه بين يديه عساهما يعلمان من أمره شيئا آخر، فكانت الطلة دالة، وكان نور النبوة لواحا للشيخ الطاعن الذي ما لبث أن صاح مستبشرا:” والذي نفسي بيده إنك لنبي هذه الأمة، ولتُكذّبن، ولنؤذينّ، ولتُخرجن، ولتقاتلنّ، ولئن أنا أدركت ذلك اليوم لأنصرن الله نصرا تعلمه”[3]

ولم تكن خديجة ذات الجاه والكرامة بين أهلها لتتخلّف عن زوجها المحاصر في شعب أبي طالب، في حادثة الإبعاد الشهيرة تضييقا على الدعوة والمنتسبين إليها، حيث أقامت هناك معه ثلاث سنين صابرة محتسبة، متحملة في سنّها المتقدّمة ما يشقّ على الجسد والنفس من الحرمان، والإعراض، “لقد خرجت خديجة مع زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولادهما إلى شعب أبي طالب، وعاشت معه ومع المسلمين عيشة الضنك والجوع والخوف، وكانت نعم المجاهدة في سبيل الله، حتى أذن الله بتفريج الكرب، فنقضت تلك الصحيفة الظالمة، وعاد المؤمنون إلى ديارهم بمكة، ولم تكن تلك العودة إيذانا بنهاية عهد الاضطهاد والتعذيب، لكنها كانت بداية لمرحلة جديدة من فتن المسلمين وصدّهم عن دين الله”[4]

ربما لم يكن عليه الصلاة والسلام يعقل وهو يفقد أمه، فلم يكن قد عاش معها كثيرا، وفارقته صغيرا، وكذلك جده الذي لم يلبث عنده كثيرا، فقد كان أب الجميع وجد الجميع، وهو واحد من كل هؤلاء.. لكن وفاة عمه أبي طالب في السنة العاشرة للبعثة كانت قاصمة لظهره من وجوه، فقد لبث مكفولا عنده في مكانة أولاده على ما كان منه من قلة ذات يد، ووجده حاميا له من عدوان المشركين فلم يصبه منهم ما أصاب تابعيه منعة بمكانة أبي طالب منهم، ومكانته من أبي طالب، وكان فوق ذلك حزينا لفراقه وهو يلح عليه إلى آخر لحظة في الحياة أن يشهد أن لا إله إلا الله عساها تشفع له بين يديه، ولكنه يأبى إلا أن يموت على الشرك.

كانت فاجعة بكل المقاييس، ووجد سلواها ولا شك عند خديجة التي يرى فيها كل شيء في حياته: أما وأختا وداعمة وحتى عشيرة، فلربما حدث نفسه وهو في حزنه العميق على عمه أنه يملك الدنيا باسرها ما دامت إلى جانبه خديجة.. ولكن ماذا وقد رحلت مباشرة بعد عمه الزوجة الحبيبة خديجة بعد مرض جعله يلازمها ويرعاها تزوّدا لفراق لا لقاء بعده في الدنيا.. أي صبر كان يكفيه لهذا الفقدان القاصم.. الذي حرمه من الزوجة بعد العم، وتركه في مواجهة مسئولية خارجية وداخلية كان في حياته من يؤديها.. لقد انهار فجأة جدار الحماية، وهوى عمود البيت.. ولفه الحزن من كل جانب.. فكان بحق (عام الحزن).

“سيدة نساء الأرض كانت سيدة الاحتواء والدعم والاحتضان.. دعمها كان الفهم والتفاهم والتواصل والإسناد والتشجيع والإيمان.. الإيمان بمعنى أنها آمنت بمحمد عليه الصلاة والسلام قبل أن يؤمن هو بنفسه، يوم عبّر لها عن خشيته على نفسه أن يكون قد مسه شيء يوم جاءه الوحي أول مرة، فقالت له: كلا أبشر فوالله لا يخزيك الله ابدا، فوالله إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكلّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق”.. لقد دخل صلى الله عليه وسلم مهمة النبوة وهناك من يؤمن به سلفا، ويمده بدعم كهذا.. وهذا ما سيفقده بموتها.. سيفقده من أجل الإعداد لمهمة اصعب، سيكون هو من يقدّم الدعم والاحتواء فيها للآخرين”[5]

رحلت خديجة، وعاد صلى الله عليه وسلم يتيما من جديد.. يفتقد إلى حضنها، ودعمها، ومشاطرتها هموم الدعوة، أما العيال فقد كانت تكفيه إياهم، وفجأة وجد نفسه وحده على رؤوسهم، يرعى فاطمة الصغيرة، ويعتصر لزينب الغريبة بدينها عند زوجها المشرك، ورقية الغريبة بجسدها مع زوجها المغتربة معه في الحبشة، ويجهز أم كلثوم لتغادر حضنه إلى حضن زوج ينتظرها.

لقد قامت خديجة رضي الله عنها بدور مهم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم لما لها من شخصية في مجتمع قومها، ولما جبلت عليه من الكفاءة في المجالات النفسية التي تقوم على الأخلاق العالية, من الرحمة والحلم والحكمة والحزم, وغير ذلك من مكارم الأخلاق, والرسول صلى الله عليه وسلم قد وفقه الله تعالى إلى هذه الزوجة المثالية؛ لأنه قدوة للعالمين وخاصة للدعاة إلى الله، فقيام خديجة بذلك الدور الكبير إعلام من الله تعالى لجميع حملة الدعوة الإسلامية بما يشرع لهم أن يسلكوه في هذا المجال من التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يتحقق لهم بلوغ المقاصد العالية التي يسعون لتحقيقها.

دامت العشرة المباركة خمسة وعشرين عاما، كان فيها لها وحدها، وكانت له ولأبنائهما، وكانت خير زوجاته على الإطلاق، بما قدمت، وما وهبت، وما احتوت، وما نالها من الشقاء بعد حياة العزّ والرخاء، كانت عشرة أفنى فيها كلّ شبابه، ولم يفرق بينهما الموت إلاّ وقد دلف إلى شيخوخته، وشارف على إقامة دولة الإسلام في أرض الهجرة.

ولأجل كل ذلك، وغيره، كانت الحبيبة خديجة دائما في البال، ولم ينسه فيها تغير الأحوال، بل لم يسكت للغالية عائشة على تهوينها من شأنها إظهارا لمكانتها هي كما تفعل ذوات الدلال، بل ردّ وصدّ وعدد لها ما سكتت عنه من كريم الخصال، وظل ردّه عليها مجلجلا في آذان ناكري العشرة عبر الأجيال:” والله ما أبدلني الله خيرا منها: آمنت بي حين كفر الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله منها الولد دون غيرها من النساء”[6]، لذلك اعترفت عائشة رضي الله عنها أنها لم تغر من زوجة من زوجاته اللواتي عايشتهن ونافستهن غيرتها من خديجة التي لم تعايشها، ولم تنافسها عليه، حيث قالت:” ما غرت من امرأة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما غرت من خديجة، لما كنت اسمع من ذكره لها، وما تزوجني إلاّ بعد موتها بثلاث سنين”[7]

وكان الوفاء على تقادم السنين بعد موتها رغم إحاطته بعدد من النساء، فليست خديجة التي تُنسى، وليست خديجة التي يُستغنى عن ذكرها، ففي الزهراء فاطمة منها نسمة، وفي الحنين إلى العودة إلى مكة من ذكراها سبب، وعيش المدينة، وحجرات الزوجات، وميادين الجهاد، ومتطلبات القيادة أعباء الكهولة التي ينساب بينها حنين متجدّد إلى تلك المرأة التي لم تتكرّر في حياته، كانت زوجة بكل معاني الزوجية: حبا، وعطفا، وعطاء، وحنانا، وفوق ذلك هي أمّ الأولاد .. وجدّة الأحفاد التي استمر من خلالها نسله، ولم ستين ذلك مع البكر ولا الثيب ممن ارتبط بهن بما فيهن أمهات الأولاد.. فلم يشأ الله تعالى أن يكرمه إلا من بطن خديجة.

وبين الحين والآخر كان يذكرها، ويشكرها، ويجدّد الشوق إليها غير منكر لفضلها، ولا لمقامها الذي لم يتزعزع وهي تحت التراب، حيث يروى أنّ أختها هالة بنت خويلد استأذنت للدخول عليه يوما بعد سنوات طويلة من وفاتها، فآنس في صوتها ما يشبه صوت خديجة ونبرتها، فقال:” اللهم هالة”[8] شوقا ولهفة لتجديد الذكرى، وإشباع الحنين للحبيبة التي طويت صفحة العشرة معها، فلن يخلو المجلس من الحديث عن خديجة، وأيام خديجة، وخصال خديجة الكاملة التي يحضر في قلبه ودّها، وذكرها، والوفاء لها بما كانت عليه، وما كان منها، فبعد العشرة حفظ الإكرام في أختها، وصواحبها اللواتي لم ينسهن بالتفقد والإكرام كما كانت تفعل، عساه يجد شيئا من ريحها، ومددا للصبر على فراقها وهي التي لم يعش مع سواها مثل ما عاش معها من السنين، بلا شريكة لها فيه، إنها عشرة الربع قرن، وذكرى الشباب، والوحي، والمشقة، ولحظات صعبة أفلن، فبقدر ما نال منها من الحب والحنان، استفاد من صمودها، وحنكتها، وحسن مشورتها حين كان وحيدا، فريدا في بداية مشوار لم يكن يدري أين يصل به منتهاه.

تلك العظيمة لم تكن عائشة رضي الله عنها قد ولدت بعد حين بنت البيت الزوجي المبارك مع محمد الصادق الأمين، ولا حتى عندما بادره الوحي فكانت سندا له في وجه المشركين، غير أنها مع ذلك احترقت بنيران الغيرة منها، لمجرد أنها كانت في باله وقلبه دائما من الحاضرين، فلم تكن تمسك لسانها عن أن تعلّق بغيض قائلة:” كأن لم يكن في الدنيا امرأة إلاّ خديجة”[9]، ولم يكن يجامل حية في ميتة، تطييبا لخاطرها، أو كسبا لثقتها، بل داوم على ذات الردّ بدوره:” إنها كانت.. وكانت.. وكان لي منها الولد”

وحتى بعد عشر سنوات من وفاتها يوم فتح مكة العظيم اختار الرسول صلى الله عليه وسلم مكانا جوار قبرها، واقام في قبة ضربت له هناك قبل الانطلاق إلى الحدث العظيم، مستأنسا بروح خديجة، ومستذكرا ولا شكّ إسنادها له في أيامه الصعبة، ليتمنى على مضض لو أنها كانت شاهدة يومه هذا لتفرح بفرحه، كما حزنت كثيرا لحزنه. فهذا الحشد العظيم من المسلمين الفاتحين، وهذه القوة التي لا تصمد أمامها قريش اليوم، لم يكن منها شيء يُذكر إذ هو عائد من الغار بوحي السماء لا يلوي أمام التكليف على شيء، وهي تواسيه، وتقوّيه، وتبثّ الطمأنينة فيه، وتعلن إيمانها في صدق ويقين قبل أن ينضمّ إلى إليه أيّ أحد قبلها، وكان هذا الموقف منها يكفيه. إنها المسلمة الأولى يستذكرها صاحب الرسالة في يوم المسلمين العظيم. ويحنّ إليها، ويشتاق إليها ولم يعد يفصله عن الالتحاق بها الكثير.

 

 

[1] ــ فقه السيرة، ص80.

[2] ــ سيرة ابن هشام، 1/253.

[3] ــ سيرة ابن هشام، 1/255.

[4] ــ تعدد نساء الأنبياء ومكانة المرأة في اليهودية والمسيحية والإسلام، أحمد عبد الوهاب، مكتبة وهبة، الطبعة الأولى، 1989م، ص48.

[5] ــ السيرة مستمرة، أحمد خيري العمري، عصير الكتب، الطبعة الأولى، 2018،، ص220.

[6] ــ صحيح مسلم، باب فضائل خديجة رضي الله عنها، حديث رقم:2437.

[7] ــ المصدر نفسه، حديث رقم: 2435.

[8] ــ صحيح البخاري، 3826.

[9] ــ صحيح البخاري، 3818.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

You cannot copy content of this page