طوفــــــــان الأقصى
خــــــــــــــــــواطر من القرآن
د.زهية حويشي
قبل السابع من أكتوبر كان العالم غارقا في غفلة من أمره، وكانت رحى المادية تطحن القيم الإنسانية والروحية، ومعاول الهدم تنهال تحطيما لمفهوم الأسرة وكل ما يتعلق بها من روابط وعلاقات، وقيم صناعة الإنسان، وكانت المفاهيم تتفكك وتتجه نحو الانسيابية والتسيب والانفلات، وطفى إلى السطح زبد الغثائية وعجت مواقع التواصل الاجتماعي بالتفاهة، وتاه المصلحون وراء فتن شتى متلاحقة، وما كنا ندري كيف يمكن أن يعاد لجام الإنسانية إلى الجادة….
في زمن النبوات كان الله سبحانه وتعالى يتعهد الإنسانية بالرسالات والمعجزات عند كل تيه، ويأخذ الأمم الطاغية أخذ عزيز مقتدر، من أجل إعادة الإنسان إلى عهده الذي نسى واقتدائه الهدى، وبعد رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ترك الله فينا ما إن اتبعناه لن نضل أبدا؛ كتاب الله وسنة رسوله، ففي الحديث قال الحبيب المصطفى ﷺ: «تركْتُ فِيكُمْ أمْريْنِ، لنْ تضِلُّوا ما تمسّكْتُمْ بِهِما: كِتاب اللهِ، وسُنّة نبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم»، ولكن الأمة ضاعت وتاهت عن هديها والنور والبرهان المبين، الذين جعلهما الله هديا في الدنيا نحو الآخرة؛ ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا﴾ (النساء: 174).
وليس المقام مقام تشخيص، إنما قراءة وخواطر قرآنية في أثر طوفان الأقصى، فإننا بحاجة أن نبدأ الحديث بوضع اليد على جرح الأمة النازف، نتحسس جرح غزة التي تنزف اليوم نزفا غائرا، يئن له العالم كله ألما وحسرة، ويحاول أكثر من في الأرض أن يهب للنصرة، لكن الطغيان كبير، قد أحكم قبضته على الجميع، وغزة تباد…. وتتحول إلى خراب ورماد…
ولم يكن إخوة غزة الذين تركوها في الجب من هب، بل كان أحرار العالم الذين انتفضوا من كل فج عميق، في منظر مهيب، تلاحت من خلاله أمام الأنظار سنة الاستبدال، وفزعت القلوب، هل استبدلنا اليوم؟ وهل بلغ الهوان القاع؟ وهل حق فينا قوله تعالى: ﴿وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾ (محمد: 38).
إن من وراء المشهد دروس وعبر، وكل يقرأ من منطلق موقعه ورؤياه، ويتأول الأحداث بحسب ما أوتي من علم ومعلومات ومنطلقات، إذ ترشدنا آيات القرآن الكريم إلى النظر في أحوال الأمم، نستنبط قوانين النصر والهزيمة ونستيقن وعد الله الحق، فيقول وقوله الحق: ﴿هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ۩ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ۩ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِين۩ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ۩ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾ (آل عمران: 138-142)، ثم أمرنا المولى أن نقرأ السنن لنحسن المسير، فقال في مواضع كثيرة، منها: ﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ﴾(فاطر: 44)، وقال في موضع آخر: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ (النساء: 26).
غير أن صلة المسلم اليوم بالقرآن لا تسر، لقد اتخذت الأمة القرآن مهجورا، فلا هي قرأت السنن ولاهي اتبعتها، فليست العلاقة بالقرآن الكريم علاقة ارتباط بالحروف تلاوة وحفظا وتجويدا فقط، لكنها أعمق وأوسع، فلما غابت القراءة الصحيحة ضاعت الأمة وعلا الطغيان.
بيد أن المشهد في غزة مختلف، لقد عاد أهل غزة إلى القرآن، فكنا نتابع كثرة الحفظة، ورأينا حفظة الصفوة والختم في الجلسة الواحدة، ولم يكن الأمر مجرد ترتيل وحفظ، لكنه كان أبعد من ذلك وأعمق، وكأنهم كانوا يهيؤون لهاته الأيام الشديدة، فلقد رأينا رأي العين ماذا أنتجت غزة وصنعت من نماذج، وماذا أفرز هذا الجيل القرآني، ولقد أعادنا المشهد إلى جيل التلقي؛ الصحابة الكرام رضوان الله عليهم وهم يتفاعلون مع القرآن، ويجعلون منه منهج حياة، ويعبدونه طريقا إلى الآخرة، لكأنهم يتمثل فيهم وصف سيد لتلك الحال وذلك الجيل القرآني الفريد عندما كان يبين معالم الطريق، معللا الفرق في التفاعل مع القرآن بيننا وبينهم فيما أطلق عليه شعور التنفيذ -وهو الذي تفيأ ظلال القرآن حتى نال الشهادة- فيقول: “هذا الشعور.. شعور التلقي للتنفيذ .. كان يفتح لهم من القرآن آفاقا ومن المتاع آفاقا من المعرفة، لم تكن لتفتح عليهم لو أنهم قصدوا إليه بشعور البحث والدراسة والاطلاع، وكان ييسر لهم العمل، ويخفف عنهم ثقل التكاليف، ويخلط القرآن بذواتهم، ويحوله في نفوسهم وفي حياتهم إلى منهج واقعي، وإلى ثقافة متحركة لا تبقى داخل الأذهان ولا في بطون الصحائف، إنما تتحول آثارا وأحداثا تحول خط سير الحياة”.
وأحسب أن فتية الأنفاق والطوفان قد قرؤوا كلمات سيد وخالطت عقولهم ووجدانهم؛ فإن أولئك الذين خططوا وصنعوا طوفان الأقصى، أولئك الذين خرجوا من الأنفاق والسجون وحلقات الذكر والتذكير، ليحلقوا في سماء الدنيا معلنين أن للحق رجالا، وأن النصر لا يصنعه خانع ومتخاذل، بل حامل مصحف وسيف معلنا أن الموت في سبيل الله أسمى الأماني، وتحت وهج السيوف كانت تتبين لهم معاني القرآن وسننه، ويصنع إنسان التمكين والنصر، فهل كان الطوفان يقظة؟
إن النفوس إنما تحصل لها التزكية حين تسقى القلوب النقية بآيات القرآن، فتشع البصيرة فقها لمعنى الحياة في سبيل الله ومعنى الموت في سبيل الله، فيتجلى حينها عرفان الشهادة والاستشهاد، ولقد شاءت سنة الله عز وجل أن لا مناص من سنة الابتلاء ليحدث التمحيص، وينجلي ما في الصدور، ولا يمكن أبدا للترف والدعة والراحة أن تصنع الرجال.
بعد طوفان الأقصى كان الابتلاء شديدا، فزلزل المؤمنون في غزة، وزاغت الأبصار فلم تعد تتبين الحقائق عند الكثيرين، وبلغت القلوب الحناجر حتى أصبح البعض يستعجل النصر، واستيأس الناس، وظنوا أن لا سبيل، ولا يزال الحال حتى اللحظة، بل أدهى وأمر… ولكنها الطريق الوعرة ولا طريق غيرها، ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ (التوبة: 111)، إن ثمن الجنة غال، وأهل غزة عقدوا الصفقة وربحوا البيع، وما نالوا ذلك المقام إلا بالترقي في سلم القرآن وتفيء ظلاله واتباع الأسباب على قدر ما أوتوا منها وعلى قدر المتاح والمستطاع، ولقد كنا نتابعهم وألسنتهم تلهث بالآيات، الكبير منهم والصغير المرأة والشيخ، القائد والجندي… وكانوا على حال عجيب من الحمد والابتسام والصبر على البأس والضر، وذلك ديدن المؤمن لا يستقبل الابتلاء إلا بالابتسام والدعاء، وكان ذلك حالهم الذي أبهر العالم، وفتح العقول على هذا الدين الذي لطالما شوهه الإعلام، فدخل الناس في دين الله أفواجا، وذلك انتصار ما كان في الحسبان، ولعل ذلك من تجليات قوله تعالى في سورة الفتح: ﴿وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ۩ وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا﴾ (الفتح: 20-21)، فكنا نشاهد مشدوهين نحن الذين قتلنا خزيا وعارا، وكبلتنا الأنظمة البائسة، وكما يبدو أننا تشربنا وأشربنا الخنوع والاستسلام، كنا ننظر رأي العين بركات الأرض المقدسة، وآثار الطوفان، وغنائمه.
وفقا للمعايير البشرية البسيطة… إنها أشلاء تمزق، دماء تراق، أرواح ترحل، فراق أحبة، دمار وخراب، تهجير وتشريد، آلام وأوجاع لا تحتملها الأنفس ولا تطاق….تلك حال هزت العالم وانتفض كل من حمل دم إنسان.
وإن الثمن لباهض؛ رحل القادة والصحفيون والفضلاء… وكم غاب من عزيز وفقيد، وكم من أرملة ويتيم وشهيد، وكم وكم….أما بالمعايير الإيمانية وسنن النصر، فكل ذلك يهون، والمشهد يختلف، فانطلاقا من القرآن هناك قراءة أخرى، والتاريخ ينبئنا الخبر اليقين.
كلنا نعرف ما حدث في أحد، وكيف استشهد حمزة رضى الله عنه وأرضاه ونكل به، ولم يبك الرسول صلى الله عليه وسلم أحدا كما بكاه، فقد كان أشدهم دفاعا عنه، وأقرب أعمامه، وكان لإسلامه الخير الكثير والأثر الكبير… لقد قتل وحشي حمزة وأكلت هند كبده بعد أن شق بطنه وأخرج أحشاءه، في مشهد تقدمه أفلام الرعب في عصرنا كأقسى المشاهد المروعة، ولكن أحد حملت إحدى أهم الدروس القاسية على النفوس، وأتت بالبشائر، وكانت محطة ومرحلة انتصار.
ثم جاء أسطول الطوفان، لعله يمحو بعض العار والخذلان.
ولنا أن نتساءل هل هي المصادفة أن يكون الطوفان رديفا للمحنة، وحاضرا في هذه الأحداث يبشر أن النصر قريب، قراءتان متناظرتان في الكون والقرآن، طوفان الأقصى وطوفان الأسطول، وطوفان نوح وعصا موسى حين شقت البحر وأغرق فرعون، وهزم الطغيان، يروي القرآن الكريم القصة ﴿فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ۩ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ۩ فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ ۩ وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ ۩ وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ٦٥ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ ۩ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ۩ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ (الشعراء: 61-68)، وكان حينها موسى يملأه اليقين في معية الله ونصره.
فهل الطوفان علامة نصر تتكرر في كل مرة حين يأخذ الطغيان منتهاه…؟
إننا نعي تماما القضية وتفاصيلها، إننا نؤمن إيمانا راسخا ممتد الجذور في التاريخ، كل ملابسات قضية غزة ومن ورائها الأقصى والقضية الفلسطينية عامة، حروف لقصة مكتوبة بالدماء، وأحداثها تحاك وفق سنن نقرؤها من القرآن، وأبطالها رجال يخرجون من الأنفاق وتصقلهم المحنة، رجال ونساء يصنعهم القرآن في محاضن الأسرة المسلمة التي تقوم فيها التربية على قواعد صلبة عصية على أن تهتز أمام رياح أفكار الباطل الهشة، التي لا قرار لها لأنها تخالف معاني الفطرة والاستعدادات الطبيعية التي خلق الله الناس عليها.
كما يتضح جليا حجم هزيمة الأمة الإسلامية وضعفها وهوانها، ويتضح أيضا جليا داؤها، والخنجر المسموم المغروز في جسدها…. الأنظمة التي استفحلت مرضا عضالا في جسد الأمة التي تحتاج نهضة شاملة وإلا فإنه الاستبدال، وقد بانت مطالعه، فمتى الاستيقاظ يا خير أمة أخرجت للناس.
وهناك جيل آخر يكبر وينمو، تصنعه يد العدو ذاتها، فأي رجل سيكون ذلك الطفل الذي بقرت بطن أمّه أمام عينيه، وقتل أبوه وهدم بيته؟ إنه جيل النصر القادم لا محال.
ولا مجال للشك أن طوفان الأقصى غير بوصلة العالم، إن أولئك الفتية الذين حلقوا في السماء ذات فجر، صنعوا وجهة جديدة، وكانوا نجوما أضاءت للبشرية الحقائق.
استيقظ العالم على مداعبة لحية شيخ روح الروح لحفيدته الشهيدة، وهو يودعها بابتسام، فأنّا للعالم أن ينسى؟ وأنّا للجراح أن تشفى؟ ولكنها الأرض الشريفة لا بد أن تسقى….ولا سقيا لها سوى الدماء الطاهرة من نفوس ترقى وتزكى بالقرآن وتناوش النصر….
أيا أيّها الطوفان إنّا لنشم ريح النصر، ألا إن النصر آت.