حصريا

غزة المقاومة الحاضنة الشعبية والنموذج الحضاري -د. عبد الحميد بن سالم – الجزائر-

0 58

غزة المقاومة

الحاضنة الشعبية والنموذج الحضاري

 

القدس الشريف محطة في تاريخ الإنسانية، ومنعطف كبير في مسار الرسالة، أفْرَدَها الله بمعجزة الإسراء والمعراج، وخصَّها بسورة في كتابه. وصفها بالأرض المبارك، ووصف أهلها في قوله: ﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا٥﴾ (الإسراء: 5)،  وعهد للمسلمين بحمايتها، ومنحهم قيادة البشرية من خلالها، بعد أن يعيدوها إلى رحاب الأمة، وسماه بوعد الآخرة.

ومعركة فلسطين لا تنحصر في تحرير الأرض من محتل غاصب، وإنما هي معركة وجود وسيادة البشرية وتحريره من الظلم. ودونه دعوة وجهاد، وصبر واستشهاد.

وما يحدث اليوم في غزة، من حصار وتجويع وإبادة جماعية ونزوح وتهجير، ليس بدعا في طبيعة الدعوات، وإنما هو من الابتلاء وسنن التمكين،  ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ٢١٤﴾ (البقرة: 214).

بعد محنة شديدة أحلَّت بالنبي صلى الله عليه وسلم، في موت خديجة الحضن الدافئ، وعمه أبي طالب المأوى الآمن، وبعد حصار طويل في شعاب مكة من عشيرته وأهله، وملاحقته إلى الطائف إمعانا في الحصار، ولم يستطع العودة إلى مكة حتى دخلها بجوار كافر، وهو يحمل ثقل الأمانة التي أراد الله أن يُشرِّف بها قريش، وأراد لمكَة المكرمة أن تكون مركزا لقيادة الأمة، لكنهم كانوا يبحثون عن قيادة القبيلة ﴿وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ٣١﴾ (الزخرف: 31). فلم يستوعب كبرياؤهم وطغيانهم هذا التكريم لبلدهم والتشريف لقبيلتهم، بمركز قيادة الأمة جهلا وضلالا.

إن حادثة الإسراء والمعراج قد أخرجت النبي من كل تلك المحنة، ونقلته من “مكة المكرمة” مركز قيادة الأمة، قبلة المسلمين وحجهم، لا يدخلها غيرهم، إلى “القدس الشريف” مركز قيادة البشرية،  قبلة الأديان وأرض الأنبياء، يعش فيها المسلمون والمسيحيون، وسمح لليهود أن يعيشوا فيها على أطراف المدينة، وللجميع حقوقهم الدينية والمدنية، ثم عرج بها إلى السماوات العلى، ليؤم الأنبياء وأُعْطي بذلك القيادة الروحية لجميع الأديان.

وقد جاءت البشائر في سورة الإسراء على نهاية بني إسرائيل، بما انتهت به الرسالات السماوية، بالتمكين للمؤمنين ونهاية الظالمين؛ ﴿إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا  فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا٧﴾، وحديث النبي صلى الله عليه وسلم: “لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود…” رواه البخاري ومسلم.

وبالإسقاط على واقع المعركة في غزة وتطوراتها، فهو صراع حضاري كبير يحكمه ميزان الأخلاق والقيم، عبر عنه “كير ستارمر” عندما قال:” ..يجب الاستمرار في دعم “إسرائيل” مهما كانت إجراءاتها قاسية، حتى لا تسمح بإقامة نواة لنظام إسلامي في غـزة، يشجع الشعوب الإسلامية على احتذاء التجربة”، وذلك ما يعكس حال غزة اليوم فهي بين منازلة العسكرية صراع الحضاري.

لقد أدركت حركة المقاومة الإسلامية من البداية، أن المقاومة المسلحة ستكون على نفس خط الدفاع مع الحاضنة الشعبية في مواجهة المحتل، وأن تهيئة الحاضنة الشعبية تربية وتدريبا وإعدادا، هو من صميم الخطة، ولا يقل عن الإعداد العسكري. ذلك أن الشعوب هي من تدفع الفاتورة الكبرى في كل الحروب، والمجتمعات هي القاعدة الخلفية للمقاومة وحاضنتها الشعبية، ومنا تستمد قوتها المعنوية والمادية، وانهيار الحاضنة مقدمة لانهيار المقاومة، فالشعب إذن هو من يحدد مصير المعركة، بين حاضنة شعبية منهارة، وحاضنة صامدة.

وقد حرص جيش الاحتلال من البداية على استهدافها، من أجل ترويعها وإخضاعها، بالقتل والتجويع حتى الموت، والترحيل المستمر حتى تضيق بهم الحياة، أملا في أن تنقلب في لحظة ما على المقاومة، وأن يجعل من غزة بيئة طاردة وغير صالحة للحياة، عساها تهاجر طواعية خارج فلسطين.

لقد اهتمت قيادة المقاومة بالحاضنة الشعبية، منذ أن جاء القائد “اسماعيل هنية” إلى رئاسة حماس في قطاع غزة، من خلال نظرته المتميزة لمنهجية العمل، حيث كانت البيئة العامة في غزة، تعج بالفساد الأخلاقي والاختراقات الأمنية، وانتشار المخدرات وحالة اللأمن في البلاد.

وبينما كان انشغال الحركة مُركزا على الانخراط في صفوف المقاومة أمام حماسة الشباب الفائرة،  سلك اسماعيل هنية منحى آخر، حيث جعل من العمل المسلح جزءا من العمل المقاوم، وكان يؤكد لأصحابه أن أعمال المقاومة متنوعة وكثيرة، ويسأل أصحابه: إذا انخرط الجميع في صفوف المقاومة المسلحة، فمن يشتغل بتربية النشىء، وتدريب الشباب، وإعمار المساجد، وتحفيظ القرآن، والاهتمام بالمرأة والطفل، ومن يغيث الأيتام والأرامل ويرعى الجرحى، ومن يشتغل في الصناعة والزراعة، ومن يتولى شؤون إدارة الحكومة والنقابة والبرلمان والعمل السياسي والدبلوماسي، ومن يكون سفيرا للحركة في الأقطار ويبلغ فكرتها لدى شعوب الأرض ويجلب لها الدعم.

وبدأ بإنجاز برنامج تربوي وحركي وتنظيمي موجه إلى كل أبناء القطاع.. وانتشرت دور القرآن من خلال مشروع “صفوة الحفاظ” الذي تخرج منه عشرات الآلاف من حفظة القرآن الكريم، وخطب فيهم في أحد المهرجانات التخرج قائلا:

“إن هذا المهرجان حدث تاريخي ليس كسائر المهرجانات، فهو يحمل عدة صفات؛ منها صفة العبودية والقوة لحمله السلاح والمرابطين في الثغور”، مؤكدًا أن المسجد الأقصى يتحرَّر فقط باليد المتوضئة التي تحمل البندقية في يد والمصحف في أخرى”.

وانتشرت الجمعيات الخيرية بما يقار 900 جمعية بكل تخصصاتها، وعمل تربوي وتكويني وتربوي واسع، ينطلق أساسا من مرجعيتها الفكرية والتربوية والتاريخية، التي أسس له الشيخ أحمد ياسين وإخوانه، والتي تبنى على أواصر ثلاث:

  • آصرة الروح: وهي وضوح الغاية: ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (الأنعام: 162).
  • آصرة الفكرة: وهي وضوح المنهج : ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (الجاثية: 18).

3- آصرة التنظيم: وهي المقاومة سبيل التحرير: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ﴾ (الصف: 4).

واشتغل بالتنمية واليد العملة والانتاج، و ازدهرت الزراعة من أجل تحقيق الأمن الغذائي، فلجات إلى التكنلوجيا الذكية، واستخدمت نظم الري الحديثة وأجهزة الاستشعار والطائرات من دون طيار، وقد بلغ إجمالي قيمة الإنتاج الزراعي في قطاع غزة خلال العام 2022 حوالي 575 مليون دولار أمريكي.

وتم تطوير المنطقة الصناعية بغزة التي تحوي 50ألف منشأة صناعية، بحجم انتاج نحو 777 مليون دولار، وتشغل 25 ألف عامل. وتقلصت نسبة الأمية إلى أقل من 5 بالمائة، واشتغلت على الإعلام، وصارت فضائية الأقصى المصدر الموثوق التي تأخذ منه كبرى الفضائيات عن أحداث غزة، وقد قدم مراسلو الجزيرة من أبناء غزة نموذج الصحفي الرسالي الصامد، الذي يضحي بروحه من أجل قضيته، واشتغلت بالإنتاج الفني والدراما التلفزيونية، مثل مسلسل “قبضة الأحرار” الذي يحاكي طوفان الأقصى، واهتمت بالرقمنة وتطوير البطاقات الإلكترونية التي شملت كل الوزارات، وانتشرت كاميرات المراقبة لمخالفات السير والحوادث الأمنية. والإنجاز الكبير، وهو معجزة الانفاق التي بلغ طولها نحو 700 كلم، حتى صار غزة بضعف مساحتها فوق الأرص وتحت الأرض، وأشياء أخرى فيها إبداع وابتكار وتفوق لا يمكن حصرها.

وأما الحرب الإعلامية، فإن المحتل بدأها تزامنا مع حرب الإبادة الجماعية، من خلال الدعاية الإعلامية الكاذبة، من أجل تشويه تلك الصورة الجميلة التي كان عليها القطاع، وذلك النموذج الحضاري على مستوى القيم والأخلاق العامة والتماسك المجتمعي، والحياة المدنية المتطورة، ومن خلال وصف قادة الاحتلال رجال المقاومة بالوحوش، من أجل أن ينتزع عنهم صفاتهم البشرية ويستباح قتلهم، وزعموا  أن أسراهم يتعرضون لشتى أنواع التعذيب والاغتصاب، وأن مقاتلي حماس قطعوا رؤوس أطفال إسرائيليين وأحرقوا جثثهم، واغتصبوا فتيات إسرائيليات قاصرات، وانتشرت هاته السردية، ونقلتها وسائل الإعلام، ورَدَّدها “بايدن” في تصريحاته.

ولكن بعد أشهر من هذا الحادث ظهرت حقيقة الإشاعة ومصدرها، فقد قدمت مراسلة شبكة “سي إن إن” الأمريكية “سارة سيندر” اعتذارا إلى الشعب الفلسطيني بسبب نشر أخبار كاذبة عن قطع رؤوس الأطفال، مؤكدة أنها نقلت الأخبار على لسان “بنيامين نتنياهو”، والرئيس الأمريكي “جو بايدن”. وتابعت الصحفية عبر تغريدة لها على منصة “إكس”: ” كنت بحاجة إلى أن أكون أكثر حذرا في استخدام كلماتي وأنا آسفة…لقد تم تضليلنا”.

لكن رد حماس كان حضاريا ومبدعا، وأحدث تجاوبا كبيرا  لدى وسائل الإعلام العالمية، حين أطلقت حماس الدفعة الأولى 13 أسير إسرائيلي مقابل 39 من الأسرى الفلسطينيين، وكان المشهد تاريخيا، وتقابلا بين صورتين، صورة الوحوش البشرية التي كان يروجها الإعلام الصهيوني، والصورة التي قدمها رجال القسام المفعمة بالقيم الإنسانية، حين سلطت الكاميرات على وجوه الأسرى الإسرائيليين وعليها ابتسامة عريضة، وأيديهم التي تُلَوِّحُ وكأنه وداع حزين، ولم يستطع هؤلاء الأسرى أن يخفوا شعورهم نحو مرافقيهم من كتائب القسام، واندهاشهم بسبب أخلاقهم وحسن معاملتهم.

لقد أظهرت المقاومة مشاهد إنسانية راقية؛ كيف يعامل الأسير في شريعتنا، وتحترم كرامة المرأة ويراعى حقوق الطفل في أعرافنا.

وجاءت الشهادات المتوالية على هذه المعاملة الإنسانية والأخلاق الرفيعة :

فبحسب صحيفة “جيروزاليم بوست” العبرية قالت الإسرائيلية “أدريانا”: “إن جدتها التي عادت من الأسر في غزة، كانت جميلة ومشرقة وفي حالة صحية جيدة، وأنهم لم يتعرضوا لأي تجارب غير سارة أثناء أسرهم، بل تمت معاملتهم بطريقة إنسانية، خلافا لمخاوفنا، ولم يواجه الأسرى القصص المروعة التي تخيلناها “.

وشاهد ملايين الناس “صورة طفلة صغيرة ببدلة طويلة وملابس أنيقة، يغمرها الفرح ولا تَكُفُّ عن الابتسام والتلويح لِرجُلٍ مُدجج بالسلاح، وبقدر ما تبدو سعيدة باللحظة الراهنة، تحرص على اغتنام كل الوقت المتبقي للتعبير عن الرضا والامتنان”.

وتحدثت أسيرة إسرائيلية أفرجت عنها حماس فقالت:

“…حافظوا على نظافة المكان وتناولنا الطعام سويا. وعندما وصلنا قالوا: إنهم مسلمون يؤمنون بالقرآن ولن يؤذونا. لقد كانوا كريمين للغاية وهذا يجب أن يقال”.

حملت هذه المشاهد معاني حضارية وإنسانية راقية تابعها عشرات الملايين كان لها الأثر البليغ في النفوس، وهم يرون معاني الصبر والرضا في وجوه الأمهات، ومعاني الشجاعة والتضحية واليقين عند عموم الناس، ويتساءلون عن سر هاته القوة واليقين، فبدأوا يهتدون إلى الإسلام يدخلون فيه أفواجا؛ ففي فرنسا يصل عدد الذين يدخلون في الاسلام إلى 400 يوميا، يقول بعضهم: “إن الصَّبر واليقين والطمأنينة التي وجدناه في أهل غزة، جعلنا نسأل عن السِّر وراء هذا، فوجدناه في الإسلام والقرآن الذي يملأ القلوب، فقرأنا عن الإسلام واقتنعنا بالقرآن وقرَّرْنا الدخول في الإسلام”.

وتقول فتاة عمرها 18 عام : أحْضرْتُ القرآن مُترجَما، وقلت سأقرأ فيه لأتعرَّف على الإله الذي أنزل هذه السَّكينة على قلوب هؤلاء الناس، وحينما بدأت القراءة لم أُكْمل، ولكني توقفت وبكيت، وانهمرت دموعي بشكل لم يحدث لي من قبل، وقلت.. هو الإله العظيم الذي أريد أن أعْبُده، وقرَّرْت الدخول في الإسلام”.

وهكذا صنعت كتائب القسام النموذج الحضاري، وصنعت إنسان العالم الذي عبر عنه الفيلسوف طه عبد الرحمان حين قال:  “أن البشرية، في الزمن الحاضر، جُمعت جمعا في الإنسان الفلسطيني، كما تُجمع في الأنبياء وعظماء الرجال، فالإنسان الفلسطيني اليوم هو (إنسان العالَمِ) .. في التَحَقُّق بأسمى القيم الأخلاقية والروحية بكل الصفات.. إن تحملا للأذى، أو تمسكا بالحق، أو تصديا للباطل، أو ثباتا في الميدان، أو تحققا بالتضحية، وبهذا يغدو الإنسان الفلسطيني نموذجا يُحتذى، ومعلوم أن النموذج في أي أمّة يقوم مقام الأمة، والعالَم هو الأمة التي أضحى الإنسان الفلسطيني نموذجا لها”.

 

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

You cannot copy content of this page