حصريا

في معنى الحافظية أ.د.رشيد كُهُوس

0 37

في معنى الحافظية

أ.د.رشيد كُهُوس

 

رئيس المركز الدولي للاستراتيجيات التربوية والأسرية بلندن

 

يشير مصطلح الحافظية إلى واحد من أهم مفاهيم الوحي التي تؤطر النظام الأسري وتحققه تماسكه وأمنه واستقراره، وتحصنه من التفكك والانهيار، فهو مصطلح ينتسب إلى ترسانة المفاهيم التي تعكس جانبا من التصور القرآني والنبوي للأسرة، من حيث التأسيس والوظيفة، سواء أكانت الأسرة نووية محدودة، أم أسرة ممتدّة تتصل بالمجتمع كله، وتبني أركانه وتقيم جوانبه وتشيّد عمرانه.

والحافظية لها أسس ومرتكزات وألويات بينها خطاب الوحي، وغرضها ضبط العلاقة الزوجية الأسرية بتقرير شرعي يسمو بوظيفتها من طبيعة العادة الاجتماعية التي قد يقع فيها الحيف والظلم، إلى ممارسة شرعية منضبطة بضوابط الأمر والنهي الإلهيين.

1-الحافظية لغة:

يقول ابن فارس:” ‌‌(حَفِظَ) الْحَاءُ وَالْفَاءُ وَالظَّاءُ أَصْلٌ وَاحِدٌ يَدُلُّ عَلَى مُرَاعَاةِ الشَّيْءِ. يُقَالُ: حَفِظْتُ الشَّيْءَ حِفْظًا.. وَالتَّحَفُّظُ: قِلَّةُ الْغَفْلَةِ.. وَالْحِفَاظُ: الْمُحَافَظَةُ عَلَى الْأُمُورِ”[1].

والحفظ تارة يقال لهيئة النفس التي بها يثبت ما يؤدي إلى الفهم، وتارة لضبط الشيء في النفس، ويضاده النسيان، وتارة لاستعمال تلك القوة، فيقال: حفظت كذا حفظا، ثم يستعمل في كل تفقد وتعهد ورعاية، قال الله تعالى: (حافظات للغيب) أي: يحفظن عهد الأزواج عند غيبتهم بسبب أن الله تعالى يحفظهن، أي: يطلع عليهن، وقرئ (بما حفظ الله) بالنصب، أي بسبب: رعايتهن حق الله تعالى لا لرياء وتصنع منهن[2].

الغيب كل ما غاب عن علم زوجها مما استتر عنه. وذلك يعمُّ حال غيبة الزوج وحال حضوره[3].

2- الحافظية في الاصطلاح القرآني والحديثي:

يقول الله تبارك وتعالى: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا﴾(النساء: 34). فالشق الأخير من الآية يحدد مسئولية المرأة لكن تفاصيلها وردت في أحاديث نبوية أخرى.

بالرجوع إلى الآية الكريمة، والوقوف عند قوله تبارك وتعالى (بما حفظ الله) نجد العلامة محمد الطاهر ابن عاشور-رحمه الله- يعطي للحفظ معنى شموليا، فيقول: “أي أنهن يحفظن أزواجهن حفظا مطابقا لأمر الله تعالى، وأمر الله يرجع إلى ما فيه حق للأزواج وحدهم أو مع حق الله، فشمل ما يكرهه الزوج إذا لم يكن فيه حرج على المرأة، ويخرج عن ذلك ما أذن الله للنساء فيه”[4].

وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم:«‌أَلَا ‌أُخْبِرُكُمْ ‌بِخَيْرِ ‌مَا ‌يُكْنَزُ؟ الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ إِذَا نَظَرَ إِلَيْهَا سَرَّتْهُ، وَإِذَا أَمَرَهَا أَطَاعَتْهُ، وَإِذَا غَابَ عَنْهَا حَفِظَتْهُ»[5]،

فما جاء في الآية الكريمة وهذا الحديث النبوي الشريف جامع وشامل لمعاني الحافظية التي تعني: صيانة النفس والعرض، وطاعة الزوج وحفظه في ماله وبيته ونسله وأسراره وكل ماهو خاص بالزوج، في غيابه وحضوره بما أمر الله تعالى به أن تحفظ، لا تقصر في مسئوليتها ورعايتها، بعد أدائها حقوق الله عليها…

وما أدرجت المرأة في صف الصالحات إلا بأدائها لحقوق زوجها عليها.

يقول سيد قطب: “وجعل من وظائف المرأة أن تحمل وتضع وتُرضع وتكفل ثمرة الاتصال بينها وبين الرجل… وهي وظائف ضخمة أولا، وخطيرة ثانيا، وليست هينة ولا يسيرة. فكان عدلا كذلك أن ينوط بالشطر الثاني –الرجل- توفير الحاجيات الضرورية، وتوفير الحماية كذلك للأنثى، كي تتفرغ لوظيفتها الخطيرة، ولا يحملها أن تحمل وترضع وتكفل… ثم تعمل وتكد وتسهر لحماية نفسها وطفلها في آن واحد، وكان عدلا كذلك أن يمنح الرجل من الخصائص في تكوينه العضوي والعصبي والعقلي والنفسي ما يعينه على أداء وظائفه هذه. وأن تمنح المرأة في تكوينها العضوي والعصبي والعقلي والنفسي ما يعينها على أداء وظيفتها تلك. وكان هذا فعلا.. ولا يظلم ربك أحدا…”([6]).

ثم تأتي تفاصيل الحافظية الزوجية في آيات أخرى وأحاديث نبوية شريفة أذكر من الأحاديث مثلا: ما قاله سيدنا رسول الله r في خطبة البلاغ والوداع فقال: «أَلاَ إِنَّ لَكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ حَقًّا، وَلِنِسَائِكُمْ عَلَيْكُمْ حَقًّا، فَأَمَّا حَقُّكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ أَلاَّ يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ مَنْ تَكْرَهُونَ وَلاَ يَأْذَنَّ فِي بُيُوتِكُمْ لِمَنْ تَكْرَهُونَ، أَلاَ وَحَقُّهُنَّ عَلَيْكُمْ أَنْ تُحْسِنُوا إِلَيْهِنَّ فِي كِسْوَتِهِنَّ وَطَعَامِهِنَّ»[7]. وفي حديث آخر: «والْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ زَوْجِهَا وَوَلَدِهِ»[8].

وهنا من الأهمية بمكان القول: إن الله سبحانه وتعالى كلف الرجال بمهمة القوامة، والنساء بمهمة الحافظية في قوله جل وعلا: (الرجال قوامون على النساء بما فضل الله به بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم. فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله). سورة النساء، الآية: 34. أول ما نتبين من وظيفة المرأة في الآية الكريمة أنها حافظة للغيب. كلمتان توحي إحداهما بمفهومها أن هناك ما يضيع إن لم تحفظه، وتوحي الثانية بأن هناك غيبا وحضورا..

الحفظ استمرار واستقرار هما قطب السكون في الحياة الأسرية والحياة الاجتماعية. النساء بفطرتهن يحفظن استمرار الجنس البشري بما هن محضن للأجنة، وحضن للتربية، ومصنع لصناعة الأجيال، ومطعمات، وكاسيات ومدبرات لضرورات معاش الأسرة. هن المحضن لأجسام الأنام، والراعيات لحياتهم، والوصلة الفطرية بين أطراف البشرية، والواسطة بين جيل وجيل.

حِفظ إذاً وغيب. الحفظ وُجْد، والضياع تلف. ما هو أثمن شيء في حياة الأمة استحق أن ينَبه الله تعالى عليه في كتابه الحكيم وينيط المرابطة عليه بشطر الإنسانية، بشطر الأمة، بشطر البيت المسلم؟ لا شك أنها مهمة كبيرة تلك التي تَعْدِلُ بين قوامة الرجل وحافظية المرأة ليحمل الرجل والمرأة عبئها. هذه المهمة هي عبادة الله تعالى، تلك العبادة المعلولة بخوف العقاب الأخروي ورجاء الجنة ورضى المولى وقربه. هي رحلة الرجل والمرأة في دنياهما، ومن دنياهما، وعبر دنياهما إلى ما يرجوان من صلاح آخرتهما.

في أداء هذه المهمة والقيام بتلك الوظيفة، وفي التفاهم والتشاور والتعاون على تمام الرحلة وسلامتها وتحقيق أمنها، يتكامل حضور أحد الرفيقين وغيابهما. حضوره هو الفطريّ في مجالات الكسب والمدافعة والكدح والسعي على العيال يغيبه عن مجالات إن لم تحفظها المرأة ضاعت.

نقف عند كلمات قرآنية هي المفتاح والدليل إلى توزيع المهام وتكاملها وشمولها. قال تعالى: (حافظات للغيب بما حفظ الله).(سورة النساء، الآية: 34) .

حافظيتها إذا لا تقصُر على حفظ حقوق الزوج والقيام بشؤون الأبناء؛ بل تشمل كل حقوق الله المكلفة بها الزوج. حافظية الصالحات القانتات في المجتمع المسلم لا تقتصر على شُغل بيوتهن وإرضاء أزواجهن وتربية أبنائهن، بل تنطلق أولا من إرضاء الله عز وجل وترجع إليه، من الله وإلى الله وفي سبيل الله..

نأخذ من حديث نبوي شريف إشارة الانطلاق، وأساس البناء. لنتخذه مفتاحا لفهم أشمل للحفاظية. روى ابن جرير الطبري بسنده إلى أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « خَيْرُ النِّسَاءِ امْرَأَةٌ إِذَا نَظَرْتَ إِلَيْهَا سَرَّتْكَ، وَإِذَا أَمَرْتَهَا أَطَاعَتْكَ، وَإِذَا غِبْتَ عَنْهَا حَفِظَتْكَ فِي نَفْسِهَا وَمَالِكَ»([9]).

في الحديث الشريف تتميز ملامح الحافظية، ويظهر لفظها، في نطاق الحياة الزوجية. استقرار البيت المسلم الذي ينظر فيه الزوج إلى زوجه فتسره. يعني ذلك أنه يحبها ويسكن إليها، لا أن شرطها أن تكون فاتنة الجمال الجسدي. ذلك يذبل ويبقى جمال الخُلُق وكمال الحافظية. البيت المسلم الذي يمارس فيه الزوج “درجة” قائد السفينة، هو هناك مع خرائطه، ومخططات الإبحار، ومواجهة أهوال الموج، وهي حافظة لما به تتغذى السفينة وتتحرك من دواليب خفية ووَقود وصيانة ورعاية. تطيع الربان إذا أمرها بما تطيق وفي المعروف، وتحفظ غيبه في نفسها وماله.

ثم إن من أولويات الحافظية حفظ الأنساب، ويقرر أولويته قوله صلى الله عليه وآله سلم: «من ادَّعى إلى غير أبيه، أو انتمى إلى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا»([10])..

أنفس ما تحفظه نساء الأمة أنساب الأمة. لأن لفيفا من اللقطاء لا يسمى أمة،. لهذا استحق اللعنة وحرمت عليه الجنة من استهان بحُرمة النسب، فطعن بذلك في ولاء القرابة، وتلصص على بر القرابة، وزوَّرَ صلات الأرحام. وكلها روابط مقدسة، الحفاظ عليها، والعفة، وحفظ الفروج، والتحصن من فاحشة الزنى، واجب مقدس في مقدمة واجبات الحافظية.

“إذا غاب حفظته في نفسها وماله”. في نفسها عفة وشرف. في ماله تدبير للنفقة واقتصاد. وها هي المرأة دخلت على مقاصد الشريعة العليا من باب واسع.

إن الحافظية مسؤولية لا تنحبس في جُدُر بيت الزوجية، وفي هموم المعاش اليومي. الدين الذي هو رأس المقاصد وغاية الغايات، يُرْضَع من ثدي الأمهات الصالحات القانتات الحافظات. وتعهُّدُهن لجسوم الأطفال ونباتها وغذائها وصحتها كتعهدهن للعقل الناشئ، يأمرن بالحسن، ويزجرن عن القبيح، ويجبن عن الأسئلة، ويلقِّنَّ اللغة.

ومن ثم فإن الجانب العاطفي الإنساني الإحساني البرّي الذي فطرت المرأة عليه مقصِد سام من مقاصد الدين([11]).

ومجمل الكلام: إن الحافظية هي صلاح المرأة في نفسها وإصلاحها لأبنائها، وطاعتها لزوجها، وحفظها لحرمة الرباط المقدس والميثاق الغليظ بينها وبين زوجها ولما أوجب الله عليها حفظه من أمور الزوجية في غيبته ووجوده، ومشاركتها في البناء العام للأمة.

فالحافظية إذن أمانة عظيمة تنوء بالعصبة أولي القوة، وهي أخت القوامة ومكملة لها، لا يمكن لإحداهما أن تستغني عن الأخرى، كما لا يمكن للإنسان أن يستغني عن قلبه أو يده أو عينه، فالكل يعمل بشكل متكامل، تجمعهم المحبة الصادقة الخالصة، والتعاون على البر والتقوى.

فالحافظية اذن “امتداد للقوامة والسلوك التطبيقي لها، حيث تبدأ من إتقان المرأة دورها الوظيفي في البيت وخارجه”[12].

 

[1] أحمد بن فارس، معجم مقاييس اللغة، ، 2/87.

[2] الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، مصدر سابق، ص244-245.

[3] المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم (مؤصَّل ببيان العلاقات بين ألفاظ القرآن الكريم بأصواتها وبين معانيها)، محمد حسن حسن جبل، مكتبة الآداب – القاهرة، ط1: 2001، 3/1551.

[4] الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، مصدر سابق، ص244-245.

[5] المستدرك على الصحيحين، أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري، دراسة وتحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية – بيروت، ط 1، 1411هـ ـ 1990م، ج1، ً 567

([6]) في ظلال القرآن، قطب، 4/353، بتصرف.

[7] الترمذي، السنن، كتاب الرضاع، باب ما جاء في حق المرأة على زوجها، ح1163، 3ج، ص467. وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.

[8] سبق تخريجه.

([9])-رواه ابن جرير في تفسيره، والبيهقي في “السنن الكبير” (7/82) من طريق ابن عجلان، عن المقبري، عن أبي هريرة.. وليس فيه ذكر الآية. وهذا حسن. وللحديث شواهد ترقيه إلى الصحيح.

([10])- الحديث أخرجه الشيخان عن الإمام علي كرم الله وجهه.

([11]) – تنوير المؤمنات، عبد السلام ياسين، مطبوعات الأفق، الدار البيضاء، ط1/1996م، 2/81  وما بعدها.

[12] القوامة للتي هي أقوم، عبير إبراهيم قارة، المجلة الدولية لنشر البحوث والدراسات، المجلد الثاني- الإصدار الثامن عشر، 20 أبريل 2021م، ص 225.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

You cannot copy content of this page